الجمعة، 17 فبراير 2012

من رمسيس الثالث إلي المجلس العسكري.. الحقوق تُنتزع

بقلم/ ابراهيم الصحاري
هناك طريقة أخرى للنظر في التاريخ تأتى في مواجهة فكرة "الرجال العظام"، وهو التعاطف مع الناس البسطاء العاملين والمشتبكين في حدث معين. فمنذ زمن الفراعنة الأوائل دائماً ما يقدم الحكام التاريخ بصفته سجل لإنجازاتهم هم وأسلافهم. فهؤلاء "الرجال العظام" هم من يفترض أنهم بنوا المدن والآثار، وهم من جلبوا الازدهار، وهم من أنجزوا الأعمال العظيمة، وحققوا الانتصارات العسكرية. وفي نفس الوقت يتجاهلون الصناع الحقيقيين للتاريخ من الناس البسطاء الذين لا يتذكر أسمائهم أحد.

كانت مصر القديمة مجتمعا محافظا ومستقرا ومتطورا واتسم نظامها بالطبقية الصارمة، حيث يعامل الناس وفقا لرتبتهم. وكانت حدود كمية العمل التي تطلب من الناس البسطاء للقيام بها لا يمكن أن تعقل - لنا أن نتخيل كمية العمل التي بذلت في بناء أهرامات الجيزة -وحجم القهر الذي واجهه العمال في مصر القديمة يرتبط عكسيا بمدي الاستقرار الاقتصادي والسياسي في البلد.

فعلى سبيل المثال، في نهاية عهد الفرعون رمسيس الثالث -هو أول فرعون في الأسرة العشرين التي حكمت مصر في عصر الدولة الحديثة- وبنى العمال في عهده معابد ضخمة في طيبة والكرنك، بالإضافة إلي التماثيل العديدة له، والذي أمر هو نفسه ببنائها في معبده بمدينة هابو والتي اشتهرت باسم التماثيل الأوزرية، وأغدق رمسيس الثالث الهدايا الثمينة علي كهنة المعابد في كل البلاد واسترجع الكهنة في عهده نفوذهم وهيبتهم.

وفي العام 29 من حكمه قام ببناء مقبرته في وادي الملوك التي استنزفت موارد الدولة، ومعها بدأت المشاكل الاقتصادية في الظهور وتفشي الفساد، ونضبت احتياطيات الحبوب المستخدمة لدفع أجرة العمال وكنتيجة لهذه المشاكل اضرب العمال في دير المدينة في العام الـ 29، من حكمه نظر لتأخير رواتبهم لمدة شهرين، ليكون أول اضراب في تاريخ مصر والعالم.

‏وتدور أحداث الإضراب في قرية دير المدينة المبنية بالحجر‏، في البر الغربي لنهر النيل، وكانت تضم داخل أسوارها العالية مجموعة من عمال بناء مقابر الملوك بمنطقة وادي الملوك‏، ‏ومقابر زوجات هؤلاء الفراعنة، ‏وأبنائهم بمنطقة وادي الملكات،‏ ضمت هذه القرية الرسامون والحجارون‏،‏ إلي جانب الإداريين والكتبة ومع زوجاتهم وأبنائهم،‏وخدمهم من الأسري المسخرين لجلب المياه والخضراوات، والأسماك، واللحوم، وحطب الطهي‏,‏ والجص، والألوان، وفتائل المصابيح‏.‏.

في أواخر العام الـ ‏29 من حكم رمسيس الثالث‏، ومع الاستعداد لأحد الاحتفالات، وكانت ميزانية المملكة موجهة للتحضير لها بالكامل‏.‏ ثار عمال دير المدينة بسبب تأخر رواتبهم‏,‏ وكان الراتب يتكون من بعض الخبز والسمن واللحوم والخضراوات والجعة‏ والثياب.‏ فاندفعوا خارجين من المدينة واكتسحوا أبواب معبد مدينة هابو‏،‏ ثم الدير البحري‏.‏ صارخين نحن:"جوعي يقتلنا الجوع والعطش‏..‏ لم يعد لدينا زيوت أو مشروبات أو خضراوات‏، والأسماك"، وكان ذلك أول اضراب عمالي في التاريخ. كنتيجة للاضراب صرف المسئولين المحليين لهم بعض المتأخر من الحبوب‏. فإذ نضبت عادوا إلي التظاهر‏.‏.

وتكررت الاضرابات عدة مرات‏، ‏أخرها في العام ‏32‏ من حكم رمسيس الثالث‏، قبيل وفاته بأسبوعين‏، ومات رمسيس الثالث مقتولاً نتيجة لمؤامرة قام بها نساء القصر بمساعدة بعض الحاشية، وكان عند مقتله قد تخطي السعبين عاما‏.‏.

منذ عهد الفراعنة إلي ميلاد مصر اليوم في نهاية القرن التاسع عشر وحتى الآن. شهدت تحركات العمال في مصر محطات رئيسية كانت تنبئ بانتقال الحركة من مرحلة إلى مرحلة جديدة.

الإضربات العمالية في مصر في العصر الحديث

كانت أول المحطات اضراب لفافي السجائر عام 1899، الذي يعتبره المؤرخون أول اضراب للطبقة العاملة وميلاد للحركة العمالية في مصر، واضرابات النسيج في الثلاثينات التي طورت الوعي النقابي والتنظيمي للحركة العمالية، واعتبرت مقدمة لصعود نضالات الحركة العمالية في الأربعينات.

وعلى مدى عقود طويلة اعتمدت الحركة العمالية في مصر على الاعتصام للتعبير عن احتجاجها، ورفع مطالبها. فقد شكل إضراب عمال كفر الدوار بعد ثورة يوليو 1952 حدا لتطور الحركة العمالية. ثم جاءت اضرابات عمال حلوان عام 1968 احتجاجا على هزيمة يونيو 1967 التي اعتبرت الميلاد الثاني للحركة العمالية، ومع موجة السبعينات التي مهدت لانتفاضة 18 و19 يناير 1977.

أما مرحلة الثمانينات فقد شهدت احتجاجات عمالية جماهيرية واسعة، كما شهدت انتفاضة الأمن المركزي واضرابات كبيرة مثل إضراب سائقي السكة الحديد في 1986 وإضرابات قطاع النسيج في المحلة وكفر الدوار والترسانة البحرية بالإسكندرية وأسكو بشبرا، واضراب الحديد والصلب في 1989 وغيرها.

كان انتهاء مرحلة الثمانينات إيذانا بمرحلة هدوء نسبي رافق التسعينات، الذي صاحب وضع سياسات الإصلاح الاقتصادي والتكييف الهيكلي التي نظمت إخراج العمال على المعاش المبكر وخصخصة الشركات، الأمر الذي أثّر بشدة على الحركة العمالية. فلم تكن مرحلة التسعينات خصبة جدا بالتحركات العمالية، ولم تشهد سوى اعتصام كفر الدوار عام 1994.

وفي ظل صعود حركة التغير شهدت مصر في الأعوام الماضية إضرابات للعمال في قطاعات مختلفة للمطالبة بزيادة الأجور لتناسب الارتفاع الكبير في المستوى العام للأسعار.

وكان إضراب عمال غزل المحلة في نهاية 2006، بداية لأقوى وأوسع إضرابات عمالية شهدتها البلاد منذ نصف قرن، ومنذ ذلك الحين والطبقة العاملة وكافة القطاعات المضهدة في المجتمع تتعلم من إضراب تلو الآخر وينفتح أمام الحركة العمالية آفاق جديدة تلهم كل الحالمين بالعيش والحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، فالحقوق لا تمنح ولكن تنتزع من رمسيس الثالث إلي عسكر اليوم.